الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضِيَ لنا الإسلام دينًا، وجعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما بعد:
فإن معرفة أسباب نزول سور وآيات القرآن الكريم من الأمور المهمة التي ينبغي على طلاب العلم الشرعي معرفتها؛ لأنها تساعد على فهم القرآن ومعرفة أحكامه، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
تعدد الأسباب والنازل واحد:
إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن، وذكرت كل من الروايتين سببًا صريحًا غير ما تذكره الأخرى، نُظر فيهما؛ فإما أن تكون إحداهما صحيحة، والأخرى غير صحيحة، وإما أن تكون كلتاهما صحيحة، ولكن لإحداهما مرجح دون الأخرى، وإما أن تكون كلتاهما صحيحة، ولا مرجح لإحداهما على الأخرى، ولكن يمكن الأخذ بهما معًا، وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح ولا يمكن الأخذ بهما معًا؛ فتلك صور أربع لكل منها حكم خاص:
أما الصورة الأولى: وهي ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى، فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب، ورد الأخرى غير الصحيحة.
مثال ذلك:
روى الشيخان عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندب بن سفيان، يقول: ((اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقُم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءته امرأة، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أرَه قربك منذ ليلتين أو ثلاث، قال: فأنزل الله عز وجل: ï´؟وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىï´¾ [الضحى: 1 - 3]))؛ [البخاري حديث: 4983، مسلم حديث: 1797].
وروى الطبراني عن حفص بن سعيد القرشي، قال: حدثتني أمي، عن أمها، وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أن جروًا دخل البيت ودخل تحت السرير ومات، فمكث نبي الله صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله؟ جبريل لا يأتيني، فهل حدث في بيت رسول الله حَدَثٌ، فقلت: والله ما أتى علينا يوم خير من يومنا، فأخذ برده فلبسه وخرج، فقلت: لو هيأت البيت، وكَنَسْتُه، فأهويت بالمِكْنَسة تحت السرير، فإذا شيء ثقيل فلم أزل حتى أخرجته، فإذا بجرو ميت، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء نبي الله ترعد لَحْيَيْهِ، وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرِّعدة، فقال: يا خَولَة، دثِّريني فأنزل الله: ï´؟وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىï´¾ [الضحى: 1 - 3]))؛ [معجم الطبراني الكبير، ج: 24، ص: 249].
فنحن بين هاتين الروايتين نقدم الرواية الأولى في بيان السبب؛ لصحتها، دون الثانية؛ لأن في إسنادها من لا يُعرَف.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "قصة إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سببَ نزول هذه الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح"؛ [فتح الباري لابن حجر العسقلاني، ج: 8، ص: 580].
وأما الصورة الثانية- وهي صحة الروايتين كلتيها ولإحداهما مرجح - فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة، والمرجَّح أن تكون إحداهما أصح من الأخرى، أو أن يكون راوي إحداهما مشاهدًا للقصة دون راوي الأخرى.
مثال ذلك: روى الشيخان عن عبدالله بن مسعود، قال: ((بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خَرِبِ المدينة، وهو يتوكأ على عسيب - عصا من جريد النخل - معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سَلُوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنَّه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت، فقلت: إنه يُوحَى إليه، فقمت، فلما انجلى عنه، قال: ï´؟وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًاï´¾ [الإسراء: 85]))؛ [البخاري حديث: 125، مسلم حديث: 2794].
روى الترمذي عن ابن عباس، قال: ((قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل، فقال: سلوه عن الروح، فسألوه عن الروح، فأنزل الله تعالى: ï´؟وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًاï´¾ [الإسراء: 85]، قالوا: أُوتينا علمًا كثيرًا؛ أوتينا التوراة، ومن أُوتيَ التوراة، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فأُنزلت: ï´؟قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُï´¾ [الكهف: 109]؛ إلى آخر الآية))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2510].
فهذا الخبر الثاني يدل على أنها بمكة، وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه، أما الأول، فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه؛ وهو أرجح من وجهين؛ أحدهما: أنه رواية البخاري، أما الثاني، فإنه رواية الترمذي، ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره، ثانيهما: أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها، كما تدل على ذلك الرواية الأولى، بخلاف الخبر الثاني، فإن رواية ابن عباس لا تدل الرواية على أنه كان حاضر القصة، ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل وفي الأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة؛ ومن هنا تم ترجيح الرواية الأولى على الرواية الثانية.
وأما الصورة الثالثة: وهي ما استوت في الروايتان في الصحة، ولا مرجح لإحداهما، لكن يمكن الجمع بينهما بأن كلًّا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معًا؛ لتقارب زمنيهما، فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدد السبب؛ لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه؛ قال ابن حجر العسقلاني: "لا مانع من تعدد الأسباب".
مثال:
(1) روى البخاري عن ابن عباس: ((أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: ï´؟وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾ [النور: 6]، فقرأ حتى بلغ: ï´؟إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَï´¾ [النور: 9]، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهِدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجِبة، قال ابن عباس: فتلكأت – أي: توقفت وتباطأت عن الشهادة – ونكصت - أي أحجمت عن استمرارها في اللعان - حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم - أي لا أكون سبب فضيحتهم - فمضت - في إتمام اللعان - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين - شديد سواد الجفون - سابغ الأَلْيَتَيْنِ – ضخمهما – خدلَّج – ممتلئ - الساقين، فهو لشريك ابن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن؛ أي لرجمتها))؛ [البخاري حديث: 4747].
(2) روى الشيخان عن سهل بن سعد: ((أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأتى عاصمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل، فسأله عويمر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاء عويمر، فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها، ثم قال: يا رسول الله، إن حبستها فقد ظلمتها فطلقها، فكانت سنةً لمن كان بعدهما في المتلاعنين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا فإن جاءت به أسْحَمَ، أدعجَ العينين، عظيم الأَليتين، خدلَّج الساقين، فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أُحَيْمِرَ كأنه وَحَرَة، فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر، فكان بعدُ يُنسب إلى أمه))؛ [البخاري حديث: 4745، مسلم حديث: 1492].
تعليق