• تم تحويل المنتديات للتصفح فقط

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأسماء الحسنى وبناء الفرد المسلم والدولة الشاهدة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأسماء الحسنى وبناء الفرد المسلم والدولة الشاهدة

    تفسير سورة الأعراف (الحلقة 24)

    الأسماء الحسنى وبناء الفرد المسلم والدولة الشاهدة


    بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:
    فقد قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ * مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 180 - 186].


    لئن سُئلتُ: بأيِّ آيِ القرآن الكريم وسوره يبدأ المعلم تدريسَه الناشئَةَ؟ لم أتردد في اقتراح البدء بآيات العقيدة من السور المكية؛ لأنها نقطة البدء في دين المرء ودنياه، ولأن أول خطاب من الله تعالى نزل للبشرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مكيًّا ومستجيبًا لأشد حاجات الإنسان في الدنيا والآخرة، ولارتكازها على بيان عقيدة التوحيد الخالدة وتبليغها وتربية الناس عليها، وهي نقطة البدء في أي عبادة مبرورة أو عمل جليل، وأول خطاب تلقاه آدم من ربه قبيل وصوله إلى الأرض متضمنًا وعده ووعيده ومنهج دينه؛ بقوله تعالى: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123، 124]، وقوله عز وجل: ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأعراف: 24].


    ذلك هو الشعور الذي تملكني وقد كلفت سابقًا من قبل وزارة التعليم في المغرب بمراجعة مناهج التعليم، وما اقترحته برنامجًا عمليًّا للتدريس فلم يكتب له التنفيذ، ونفس الشعور الذي طالما ألح عليَّ، ثم اشتد إلحاحه متدبرًا ومتفكرًا في سورة الأعراف، وقد تكامل فيها بناء النفس المؤمنة الموقنة بربها، العارفة بدورها في الحياة ومآلها بعد الممات، وغطت مسيرة الإنسان في تفاعله مع العقيدة وعمله بأحكامها وثباته عليها وصراعه من أجلها، أو كفره بها وجحوده وتنكره لها، من يوم مولده إلى يوم بعثه ونشوره دخولًا للجنة أو وقوفًا في الأعراف أو ارتكاسًا في الجحيم - أعاذنا الله منها - ومن أول آية كريمة افتتحت بها، فنفت حرجًا، وأنذرت عاصيًا، وذكَّرت مؤمنًا؛ بقوله تعالى: ﴿ المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 1، 2]، إلى آخر آية جمعت بين يدي الله عز وجل عباده من أرباب المقامات السامية والدرجات العليا في طمأنينة سجود محبةٍ وطاعةٍ، وخشوع وخضوعٍ، وتسبيح أبدي يسع الكون وما حوى، إنسًا وجنًّا وملائكة وخلقًا مما لا يعلمون؛ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206]، وقوفًا على جوهرة التوحيد فيها وواسطة عِقْدها في قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]، وهي الآية الكريمة التي نقف على مشارفها في هذا التفسير، يعرِّف بها الله تعالى نفسه لعباده ويعلِّمهم بها أمثل ما يعبدونه به، وأرجى ما به يدعون، لا سيما والعابد الحق لا تستقيم عبادته ما لم يعرف معبوده، والأجير لا ينال أجرهما ما لم يكن مخدومه مليئًا قادرًا على الوفاء بالأجر؛ ولذلك جاءت هذه الآية الكريمة معرِّفة بالله تعالى خالقنا بحق ومعبودنا بيقين، ووصفت أسماءه بالحسنى، ولفظ "الحسنى" تأنيث لاسم التفضيل "أحسن"؛ أي: أحسنها وأجملها وأكملها، وجاءت في الفترة المكية التأسيسية للمجتمع المسلم، وقد ران على البشرية الجهل بربها، أو تصوره على غير حقيقته، أو دعاؤه بغير اسمه، أو إنكار وجوده مطلقًا، والأمة الشاهدة الناشئة في أشد الحاجة إلى ما ترد به على شبهات الجاهلية وأضاليل المعاندين، جاءت مركزة شديدة الإيجاز جامعة مانعة توفر لتاليها ودارسها ومتدبرها التصور الإيماني السليم، وتصرفه بذلك عن كل أبواب الشرك الظاهر والخفي، وعززتها آيتان مكيتان في نفس الفترة المكية هما قوله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110]، وقوله عز وجل: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه: 8]، ثم نزل تذكيرًا بها وتوسعًا في شرحها، وبيانًا لآفاق ما تشير إليه في الفترة المدنية في سورة الحشر بقوله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 – 24]، فاستنارت بذلك قلوب، وأبصرت أعين، وسمعت آذان، وتمت الحجة البالغة، واجتبى الله من عباده للجنة من شاء، ولم يبقَ مجال لجهل المذبذبين أو المشككين، أو المشبهين أو المؤولين أو الملحدين؛ لأن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ورد جملة اسمية من مبتدأ مؤخر هو: ﴿ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وخبر هو شبه الجملة: ﴿ لِلَّهِ، والواو في أولها حرف عطف أفاد معنى الاستئناف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، والأسماء الحسنى بذلك توقيفية تفيد الحصر، لا يدعى الله إلا بها؛ أي: إنها أسماء حسنى له وحده، هو المتصف بحقيقتها ولا شريك له فيها.


  • #2


    كما ورد التعريف بأسمائه تعالى تعقيبًا على قوله عز جل مباشرة: ï´؟ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 179]، في إشارته سبحانه إلى كافة الطوائف الضالة، وهي في كل زمان ومكان ما بين جهل بأن لها ربًّا، أو وصف له بما لا يليق به، أو تسمية له بغير اسمه، كحال عرب الجاهلية إذ أنكر بعضهم وجوده؛ وقال عنهم تعالى: ï´؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ï´¾ [الفرقان: 60]، وحرَّف بعضهم أسماءه تعالى: "الله" و"العزيز" و"المنان"، وأطلقوها على أصنام لهم دعوها: "اللات والعزى ومناة"، وحال بعض ضلال الصوفية ومتشيطنتهم من أمثال ابن عربي القائل:
    "العبد رب والرب عبد
    يا ليت شعري من المكلف"




    وابن الفارض الذي يقول:
    "أنا من أهوى ومن أهوى أنا
    نحن روحان حللنا بدنا"




    ومن شايعهما على تفاوت في فساد العقيدة وضلال المسعى، وحال بعض محترفي الحزبية الإسلامية المعاصرين؛ إذ دعا أحد قادتهم إلى تقليد المسيحيين وتسمية الله تعالى مثلهم بلفظ "كود -God "[1]، والقرآن الكريم يرد عليهم جميعًا في سورة الكهف بقوله تعالى: ï´؟ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ï´¾ [الكهف: 103 – 104]، ويوضح حجر الأساس في العقيدة السوية بتوثيق أسماء الله الحسنى في هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف، ترسيخًا لها في العقول والقلوب، والمهج والتصورات، وتوجيهًا للمؤمن إلى ربه بكليته مشاعر ونوايا، وأقوالًا وأعمالًا.



    إن المقصود بالأسماء في هذه الآية الكريمة العظيمة هو الألفاظ الدالة على البارئ تعالى كاسم الجلالة: "الله"، أو الدالة عليه مع صفة من صفاته المشتقة؛ مثل: الرحمن والرحيم والغفور والغفار، أو التي هي مصدر دال عليه مثل: السلام والعدل، وكلها بالغةٌ كمالَ الحسن والجمال؛ قال القرطبي: "وسمى الله أسماءه بالحسنى؛ لأنها حسنة في الأسماء والصفات، تدل على أحسن المعاني وأكمل الصفات، وتدل على توحده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله"، ولئن كان أول اسم فيها هو "الله"؛ فلأنه اسم الجلالة الذي عرف به الحق نفسه لعباده منذ الأزل، والاسم الجامع الذي يدل على جميع أسمائه وصفاته ولم يطلق على غيره؛ فقال عز وجل: ï´؟ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ï´¾ [طه: 14]، وقال: ï´؟ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [النمل: 9]، وقال: ï´؟ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [القصص: 30]، فإن جميع الأسماء الأخرى الواردة في حقه تعالى راجعة إليه، ليست إلا صفات له وحده لا شريك له فيها، لا يتعدد المسمى بها بتعدد الأسماء، ولا يتعدد الموصوف بها بتعدد الصفات، ونحن نعرِّفه وندعوه سبحانه بهذه الأسماء والصفات التي لا تماثلها صفات غيره؛ قال تعالى: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، وقال سبحانه: ï´؟ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنى ï´¾ [الإسراء: 110]؛ أي: اعبدوه تعالى ونادَوه باسمه الرحمن، أو بأي اسم آخر من أسمائه التي تجدونها في الكتاب والسنة لا غير، فكلها أسماء حسنى له تعالى، انفرد فيها بأحسن صفات الكمال والجمال، ليس كمثله فيها شيء وهو المنزه عن المثال والشبه والشيء؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الكرب: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي))، فدعا ربه تعالى بكل اسم له استأثر به لا يعلمه غيره، أو اسم علمه لأحد من خلقه جنًّا أو إنسًا أو ملائكة أو خلقًا ممن لا يعلمهم إلا هو، مما يبين أن لله أسماء حسنى بعضها في سور القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وغيرها لا يحدها حدٌّ ولا يعدها عد، ولكنه تعالى تخفيفًا عن العباد حصَرَها لدخول الجنة - وذاك غاية مبتغاهم - في تسعة وتسعين اسمًا؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ))، وفي رواية: ((مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة))، إلا أن هذه الأسماء التسعة والتسعين لم ترد مجموعة في نص واحد من الكتاب أو السنة، على رغم أنها منتثرة فيهما بحسب سياقاتها أو مناسباتها، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي قال: حدثنا إبْرَاهيمُ بنُ يَعْقُوب الجوزجاني، أَخبرنا صَفْوَانُ بنُ صَالِح، أخبرنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ، أخبرنا شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ، عَن أبي الزِّنَادِ، عَن الأَعْرَجِ عَن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: ((إنَّ لله تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غيرَ وَاحِد مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجَنَّة، وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ))؛ وهذا الجزء مما رواه الترمذي صحيح، أخرجه البخاري ومسلم، من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج، وزاد فيه الترمذي: ((هُوَ الله الَّذِي لا إلَهَ إلاّ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِك القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّر الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الغَفَّارُ القَهَّارُ الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الفتَّاحُ العَلِيمُ القَابِضُ البَاسِطُ الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل السَّمِيعُ البَصِيرُ الحَكَمُ العَدْلُ اللّطِيفُ الخَبِيرُ الحَلِيمُ العَظِيمُ الغَفُورُ الشَّكُورُ العَلِيُّ الكَبِيرُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الجَلِيلُ الكَرِيمُ الرَّقِيبُ المُجِيبُ الْوَاسِعُ الحَكِيمُ الوَدُودُ المَجِيدُ البَاعِثُ الشَّهِيدُ الحَق الوَكِيلُ القَوِيُّ المَتِينُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ المُحْصِي المُبْدِئُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الحَيُّ القَيُّومُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ القَادِرُ المُقْتَدِرُ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ الوَالِي المُتَعَالِي البَرُّ التَّوَّابُ المنتَقِمُ العَفُوُّ الرَّؤُوف مَالِكُ المُلْكِ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ الغَنِيُّ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُور)).

    إلا أن أهل الحديث يرَون أن هذا العد ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مدرج في الحديث، اجتهادًا في البحث عنها من خلال القرآن والسنة للدعاء والتعبد بها؛ قال ابن كثير في تفسيره: "وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّ سَرْدَ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ؛ أَيْ: إنهم جمعوها من القرآن كما ورد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي زَيْدٍ اللُّغَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَم"، مع العلم بأن عدم تعيينها بالاسم والعدد في نص واحد من الكتاب والسنة قد يكون حثًّا على الاشتغال بها، والبحث عنها ومفاتشتها من خلالهما، كحال ليلة القدر إذ أخفيت، وذكر صلى الله عليه وسلم بعض معالمها، كي يحصل الاجتهاد في التماسها، وهو ما فعله الترمذي وغيره من أهل الحديث.

    تعليق


    • #3

      ولئن ثار الخلاف حول معنى الإحصاء والحفظ بين المفسرين، وهل هو قراءتها كلمة كلمة على طريق الترتيل تبركًا وإخلاصًا أو دعاء، أم هو حفظ ألفاظها وعلم اشتقاق تراكيبها ومبانيها ومضامينها، أم هو التخلق بما يناسب المرء من معانيها، فإننا لا ننكر أن تأثيرها على رغم هذا الخلاف، وفي كل الأحوال بالغ في توضيح رؤية المؤمن لدينه وعقيدته، ثباتًا لقلبه وصفاء لوجدانه وقوة لجنانه، وأنها أفضل وأقوى دعامة للمرء في حياته المادية والمعنوية، والفكرية والعقدية؛ لأنها مدخل للإيمان وركيزة للتوحيد، ومنهج للحياة، وقوام ومحور للأخلاق، على تفاوت في ذلك بين المؤمنين بها والعاملين بمقتضاها، بحسب عمق تصورهم الإيماني، وقدراتهم الفطرية، وعزائمهم الماضية، واختلاف ما يجنونه من رياضها، ويرشفونه من حياضها؛ لأن الذي يقر بلسانه – مثلًا - أن الله قادر وعليم، ويكتفي بهذا الإقرار، ليس كمن شاهد عجائب علمه وقدرته في خلق الأرواح والأجساد والآفاق، وفي ملكوت السماوات والأرض ممعنًا في التفصيل، مستقصيًا دقائق الحكمة، ومستوفيًا لطائف التدبير، وليس من فعل هذا فقط كمن أضاف إليه تعديلًا لسلوكه ومنهج حياته، بما يناسب هذه المعرفة، فطابت نفسه، وعلت همته، وتسامت عقيدته وأخلاقه، يومًا بعد يوم بتسامي درجات إيمانه وإحسانه، ورسوخ حفظه وإحصائه؛ وذلك لأن للتوحيد الحق المبني على الإيمان بالله تصورًا واضحًا شقين لا غنى لأحدهما عن الآخر:
      الشق الاعتقادي: يمنح الرؤية الواضحة للكمال الإلهي المطلق المتجلي من صفات الله تعالى وأسمائه؛ إذ لا توجد صفة كمال إلا وهي له سبحانه وتعالى؛ كما قال: ï´؟ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [الروم: 27].


      والشق العملي: يوجه الحركة البشرية نحو الطريق الموصل إلى التأثر والتأسي بذلك الكمال المطلق؛ فيحصل للمؤمن ما يناسبه منه، ويصير عبدًا ربانيًّا ومن أولياء الله المقربين، ونحن عندما نؤمن بها ونحصيها ونحفظها، ونذكره بها، ونتأثر سلوكيًّا بنورها - إنما نثني عليه ونسبحه وننزهه عن كل صفة لا تليق به تعالى، وفي كلتا الحالتين نحن نرسخ معرفته في أنفسنا، ونرفع بهذه المعرفة ذواتنا نحو الأعلى بتزكية نفوسنا، وتطرية قلوبنا، وتقويم سلوكنا، وتطهير أعمالنا، وتثبيت مواقفنا على الحق ومعه، وفي كلتا الحالتين - الاعتقادية والعملية – يجمع المرء بإحصاء أسماء الله الحسنى تمام الإسلام والإيمان والإحسان، وينفسح له سبيل الجنة القاصد، ما تقيد بشرطي الأمر والنهي في قوله تعالى بعدها مباشرة: ï´؟ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأعراف: 180].


      أما الأمر في هذه الآية وهو قوله تعالى: ï´؟ فَادْعُوهُ بِهَا ï´¾ [الأعراف: 180]، فإن الدعاء في اللغة هو أن تمُيلَ الشيءَ إليك بصوت أو كلام يكون منك، كما ذكر ابن فارس في معجمه، وفي الدين هو دليل معرفة المرء قدر ربه سبحانه، وشعوره بالافتقار إليه، وإقباله على عبادته وذكره وسؤاله والتوسل إليه؛ قال تعالى: ï´؟ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ï´¾ [الأعراف: 205]، وقال: ï´؟ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ï´¾ [غافر: 60]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)).


      وأما النهي في قوله تعالى: ï´؟ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ï´¾ [الأعراف: 180]، فإن فعل الأمر في هذه الآية الكريمة: ï´؟ وَذَرُوا ï´¾، من "وذر"؛ أي: ترك، ولكن العرب أماتت منه الماضي والمصدر واستعملت منه المضارع والأمر؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ï´¾ [الإنسان: 27]، وقوله عز وجل: ï´؟ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ï´¾ [الإنسان: 11]، وأما قوله تعالى: ï´؟ يُلْحِدُونَ ï´¾، فمن فعل "لحد" قرأها حمزة: ï´؟ يَلْحِدُونَ ï´¾، بفتح الياء من "لَحَدَ" ثلاثيًّا، هنا في الأعراف، وفي النحل، وحم السجدة، وقرأها الباقون بضم الياء وكسر الحاء: ï´؟ يُلْحِدُونَ ï´¾، من "أَلْحَد"، ويدل على ميل وانحراف عن الاستقامة، ومنه يقال: لحدت الميت وألحدته؛ أي: جعلت له قبرًا مائلًا في جانبيه، ومن ذلك سمي القبر لحدًا، وقيل: "ألحد" للرجل؛ إذا مال عن طريق الحق، ولمنكري الدين ملحدين وملاحدة، كما قيل للظلم والعدوان مطلقًا إلحاد؛ لميلهما عن الحق وانصرافهما عنه، أما في سياق هذه الآية الكريمة، فيعني الإلحاد تسمية الله تعالى بما لم يرد في الكتاب والسنة الصحيحة، كما استعمل لفظ الإلحاد عبر تاريخ الانحراف العقدي، ومعاداة الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ للتعبير عن عقيدة الكفر بوجود الخالق، أو إنكار تنزيل الوحي أو حساب يوم الدين؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ï´¾ [الجاثية: 24]، وفي العصر الحديث أصبح للإلحاد ثقافة ومثقفون، وأموال وممولون ودول ومنظمات عالمية مارقة عن الدين، مما يوجب على المؤمن بجانب الاشتغال، بتحصيل العلم والدعوة إليه وتربية الخلق عليه، الحذرَ وعدم الانجراف إلى خصومة أربابه، أو إضاعة الجهد والوقت في مجادلتهم، وتركَهم لأمر ربهم يفعل بهم ما يشاء، كما يوجه إليه قوله تعالى عقب دعوته إلى توحيد الله وعبادته: ï´؟ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ï´¾ [الأعراف: 180]؛ أي: اتركوا الذين يتجرؤون على وصف الله سبحانه بما لا يليق، أو يلحدون في أسمائه وصفاته بتعطيلها أو إنكارها، أو الزيادة فيها أو النقص منها، أعرضوا عنهم، ولا تكثروا سوادهم أو تجادلوهم، أو تنشغلوا بهم عن دعوتكم، والصالح من أعمالكم: ï´؟ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ï´¾ [الأعراف: 180]، سيجزيهم الله شر أعمالهم، وهو تهديد واضح وشديد لدعاة الإلحاد في كل زمان ومكان، ووعيد بأنه تعالى كفيل بمحاسبتهم والانتقام منهم، والآية بذلك محكمة وغير منسوخة بآيات القتال؛ كما ذهب إليه ابن جزي رحمه الله؛ لأن سياق أمرها بالترك ومساره غير سياق آيات القتال ومسارها.


      وبعد أن عرَّف الوحي الكريم المؤمنين بأسماء الله الحسنى، وعلَّمهم بها التصور الإيماني الحق للربوبية والألوهية، وكان من قبل قد أمر بني إسرائيل باتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذا ما أدركوا بعثته؛ وقال عن بقية الصالحين منهم: ï´؟ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 159]، نزل الوحي بما يبشر المسلمين أيضًا، ويطمئنهم ببقاء دينهم وأمتهم وصلاح أمرهم؛ فقال تعالى: ï´؟ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا ï´¾ [الأعراف: 181]؛ أي: وممن خلقنا للجنة، ï´؟ أُمَّةٌ ï´¾ [الأعراف: 181]، جماعة أو طائفة أو شعب: ï´؟ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 181]، في إشارة منه تعالى إلى خواص ما ينبغي أن تتميز به أمة الإسلام تمسكًا بالحق في كل أمرها، والعدل في رعايتها للعامة والخاصة، فصلَ قضاء، وتوزيعَ ثروة، وتنظيمَ دولة.


      ولئن كان ظاهر الآية يعني أن الأرض لا تخلو من قائم لله إلى قيام الساعة، ولم تعين لأمة الحق والعدل فيها عصرًا من العصور، فقد ورد في سبب نزولها ما يخصصها بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ روي أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ((يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل، إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين[2]، وجعل لنا أجرًا واحدًا، وقد صدقناك والرسل والكتب؛ فنزلت هذه الآية: ï´؟ وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ ï´¾ [الأعراف: 181]؛ يعني: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ï´؟ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 181]، قال قتادة: "بلغنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذه لكم وقد أُعْطِي القوم بين أيديكم مثلها: ï´؟ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 159]، ودلت بذلك الآية الكريمة على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي أمة الحق والعدل إلى يوم القيامة، وأيد هذا المعنى فيها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس))، وقوله عليه السلام: ((لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)).

      تعليق


      • #4

        ثم توعد تعالى من لم يؤمن من كفار قريش وغيرهم ممن تبلغهم الدعوة، فلا يؤمنون بقوله سبحانه: ï´؟ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ï´¾ [الأعراف: 182]؛ أي: كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن الكريم، ï´؟ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ï´¾ [الأعراف: 182]، والاستدراج من فعل "درج"؛ أي: مضى، ومنه درج الشيء؛ أي: ذهب أو مات، أو انتهى أمره، أو درج فيه إذا استمر فيه، ودرج إليه؛ أي: سعى إليه، ومنه مدارج الجبل، وهي الرتب الحجرية والترابية المعترضة يصعد بها المرء إليه، أو ينزل منها واحدة بعد أخرى، ومنه الاستدراج صعودًا أو نزولًا؛ أي: الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة، ومعناه في هذه الآية الكريمة: سنسوقهم إلى الهلاك بالتدريج شيئًا فشيئًا، من غير أن يشعروا أو يعلموا أنه استدراج لهم، وذلك كالذي ينسى أحكام دينه أو تغرُّه الشهوات، فيقبل على المعاصي، أو الذي تتواتر عليه النعم مالًا وبنين وهناءة، ولا يبالي من أين أتته، ولا كيف يتصرف فيها، وينسى الآخرة حتى ينتقل إليها: ï´؟ وَأُمْلِي لَهُمْ ï´¾ [الأعراف: 183]؛ أي: أمهلهم، وأمد لهم في ذلك، فلا يُعجَّل لهم بما يردعهم، أو ينبههم، أو يوقظهم من غفلتهم، فيزدادون فرحًا وبطرًا بما أوتوا حتى يدركهم الموت بغتة، فتحق عليهم كلمة العذاب: ï´؟ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ï´¾ [الأعراف: 183]؛ أي: إن أخذي لمن كذب بآياتي، واغتر بالحياة الدنيا - شديد، وسمي ما فُعِل بهم كيدًا؛ لأن ظاهره كان إحسانًا، وباطنه كان خذلانًا؛ كما قال بعض الصالحين: "تأتيهم الدنيا بمحنة في طيِّ منحة، فتضحكهم وتضاحكهم وتضحك عليهم، وتريهم بريق الذهب في أعينهم، وبريقُ الخنجر لمَاَّعٌ ومغروز في ظهورهم"، وقال غيره من أولياء الله: "أخوف ما أخاف على نفسي، عندما تستجاب دعواتي، أو تتوالى عليَّ النعم".


        ثم بالتفات إلى كفار قريش ومشركيها توبيخًا لهم وتعجبًا من غبائهم، وعجز عقولهم عن التدبر والفهم، وكلُّ ما حولهم دليلٌ إلى الحق، وإلى صراط مستقيم؛ قال تعالى: ï´؟ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ï´¾ [الأعراف: 184]، في حال الرسول صلى الله عليه منذ كان بين أظهرهم صبيًّا ناشئًا، ثم غلامًا يافعًا ورجلًا كامل العقل راجحه، وفيما جاءهم به، ودعاهم إليه من الحق والتوبة، والحياة الطيبة والعمل الصالح، وأنهم كانوا يدعونه الأمين؛ لصدقه وأمانته وحكمته وعلو همته، فحكموه لذلك في أمر إعادة بناء الكعبة، ثم هم يحاولون التشكيك في نبوته، ويتهمونه بالجنون في محافلهم الخاصة والعامة؛ كما قال تعالى: ï´؟ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ï´¾ [القلم: 51 – 52]، وقال: ï´؟ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ï´¾ [الصافات: 36]، وقال: ï´؟ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ï´¾ [الحجر: 6]، هلا فكروا قليلًا؛ كي يتبين لهم أنه ï´؟ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ï´¾ [الأعراف: 184]، ليس بصاحبهم المبعوث إليهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنون ï´؟ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ï´¾ [الأعراف: 184]، بل هو راجح العقل، ثابت الجنان، اصطفاه الله لتبليغ رسالته وأَمَرَه أن يدعوكم إلى الحق، ويبينه لكم، وينذركم عاقبة الكفر والعصيان؛ قال قتادة: "ذُكِرَ لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلًا، فجعل يدعو قريشا فخذًا فخذًا: يا بني فلان، يا بني فلان، يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح؛ فأنزل الله تعالى: ï´؟ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ... ï´¾ [الأعراف: 184]".


        ثم حثهم الحق تعالى على مواصلة النظر المؤدي إلى الإيمان؛ فقال سبحانه: ï´؟ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ï´¾ [الأعراف: 185]، ألم يتدبروا بعقولهم وقلوبهم ما يرونه في الكون أرضًا وسماء، ونجومًا وأفلاكًا، وخلائق حية تسعى، فيهتدوا إلى ضرورة توحيد الخالق الحق سبحانه وإلى صراطه المستقيم، ï´؟ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ï´¾ [الأعراف: 185]، أولم ينظروا إلى الموت تأخذ من حولهم كل حين، فيتذكروا أن لهم أيضًا أجلًا يموتون فيه قد يكون قريبًا، فيحاسبون على معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم: ï´؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الأعراف: 185]، إذا لم يؤمنوا بالقرآن الكريم على كمال بيانه، وقوة حجته، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ومكانة نبوته، وتمام رسالته، ولم يهتدوا بما يرونه من آيات خلق الله أمامهم، ومن فوقهم، ولم يتعظوا بالموت، وهو يتخطف من حولهم، فبأي بيانٍ يهتدون ويؤمنون؟ ï´؟ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ï´¾ [الأعراف: 186]، من كان حاله حيرة وغلوًّا وطغيانًا، فأمره إلى الله إن شاء أنقذه وهداه، وإن شاء تركه فيما هو فيه تائهًا حائرًا، حتى يأتيه الموت، والآية قرأ عاصم وأهل البصرة فيها قوله تعالى: ï´؟ وَيَذَرُهُمْ ï´¾ [الأعراف: 186]، بالياء ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء ï´؟ وَيَذَرْهُمْ ï´¾، وقرأ الآخرون بالنون ورفع الراء، ï´؟ وَنَذَرُهُمْ ï´¾، على أن الكلام مستأنف؛ أي: نتركهم، ï´؟ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ï´¾ [الأعراف: 186]، في الكفر يتيهون.


        لقد بينت آيات هذه الحلقة من تفسير سورة الأعراف طبيعة بناء الأنفس الرائدة والدول الشاهدة، أما الأنفس الرائدة، فلا تبنى إلا بتوحيد الخالق سبحانه، ومعرفة أسمائه الحسنى، والتأثر بها في الاعتقاد والعمل، ونبذ الإلحاد والملحدين، والإعراض عن مهاتراتهم، والتفرغ لنصرة الإسلام وإعداد رجاله، وأما الدول الشاهدة، فلا بد لمن يروم إقامتها أو نيل شرف المساهمة في بنائها، واصطفاه الله لها، من منهاج سعيٍ، وتصميم عمل، وتحديد قبلة وهدف، وقد جمعت له هذه الآيات الكريمة ذلك كله في أركانها الثلاثة: ركن التوحيد الحق في جوهرته الربانية السامية؛ بقوله تعالى: ï´؟ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ï´¾ [الأعراف: 180]، وركن إقامتها على الحق والعدل في قوله تعالى: ï´؟ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 181]، وركن ضرورة الاستغراق في البناء والتشييد، والإعراض عن الملحدين والجاهلين، فلا ننشغل بهم، أو نستهلك أعمارنا وطاقاتنا في مجادلتهم؛ بقوله تعالى: ï´؟ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ï´¾ [الأعراف: 180].


        لندن في يوم الأربعاء 17 جمادى الأولى 1443 للهـجرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، الموافق: (22/ 12/ 2021).

        [1] مثل الدكتور حسن الترابي في شطحاته العقدية الشاذة وبعض ما دونه في كتابه: "نظرات في الفقه السياسي"، من أنه لا حرج على المرء وهو يتكلم من موقع (عـزة ثقافيـة)، وفي سياق يحترز به من الخلط، أن يستعمل كلمة "god" معرفَةً بالحرف الكبير، إشارة إلى الله.

        [2] إشارة إلى قوله تعالى في الذين أسلموا من أهل الكتاب: ï´؟ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ï´¾ [القصص: 52 - 54]، وقوله عز وجل: ï´؟ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأعراف: 159].






        الألوكة

        تعليق


        • #5
          جزاك الله خير

          تعليق


          • #6
            بارك الله فيك وجزاك خير

            تعليق


            • #7
              مشكوووووور والله يعطيك العافيه




              تعليق


              • #8
                بارك الله فيك
                وبورك في جهودك الطيب
                ووفقك الرحمن لكل خير
                ولا حرمك الله الاجر والثواب




                تعليق


                • #9
                  يسعدني ويشرفني مروركم العطر

                  تعليق

                  يعمل...
                  X