هذه الآية هي الآية الرابعة من الفاتحة، نِصْفُها للرب جل وعلا، ونصفُها للعبد، كما قال الله عز وجل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((فإذا قال العبد: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سأل...))، فقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ للرب - تبارك وتعالى - مع ثلاث آيات قبلها، وقوله: ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ للعبد، مع ثلاث آيات بعدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[1] في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾: "فهذا تفصيل لقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يُعبَد أحد سواه، فقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي، ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكُّل والتفويض والتسليم".
قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾:
﴿ إِيَّاكَ ﴾ في الموضعين ضمير بارز منفصل مبني على الفتح في محل نصب مفعول به مقدَّم للفعل بعده، أو "إيا" ضمير مبني في محل نصب مفعول به، والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب.
وهذا مذهب الأخفش، واختاره الزمخشري[2]، وقال: "وعليه المحققون".
وقُدِّم المفعول "إياك" على الفعل في الموضعين؛ للاهتمام، ولئلا يتقدم ذِكرُ العبد والعبادة على المعبود[3]؛ كقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ﴾ [الأنعام: 164]، وقوله: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ [الزمر: 64].
ولئلا يتقدم ذِكر الاستعانة والمستعين على المستعان به جل وعلا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
وقُدِّم أيضًا لإفادة الحصر والاختصاص؛ لأن تقديم ما حقُّه التأخير يفيد الحصرَ والاختصاص؛ لأن في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تحقيقًا لمعنى "لا إله إلا الله"، ففي تقديم المعمول "إياك" في الموضعين نفيٌ للعبادة عن غير الله، ونفي للاستعانة بغيره.
وفي قوله: "نعبد" و"نستعين" إثبات العبادة والاستعانة له سبحانه.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين"[4]: "فهو في قوة لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.. مع أن في ضمير "إياك" من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي "إياك قصدت وأحببت" من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك: "قصدتك وأحببتك..".
وكرر الضمير "إياك" مرة أخرى للاهتمام، ولأن ذلك أفصح[5].
قال ابن القيم[6]: "وفي إعادة "إياك" مرة أخرى دلالة على تعلُّق هذه الأمور بكل من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلًا: "إياك أحب، وإياك أخاف" كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره، ما ليس في قوله: "إياك أحب وأخاف".
وفي قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بعد الآيات الثلاث الأولى التفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب؛ كقوله تعالى: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإنسان: 21، 22][7].
وعكسه قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [يونس: 22].
والغرض العام من الالتفات في جميع المواضع التي ورد فيها هو تنبيه القارئ والمستمع؛ لأن انتقال الكلام من الغَيبة إلى الخطاب أو التكلُّم أو العكس ونحو ذلك، مما ينبه القارئ والمستمع، وأدعى للإصغاء، وأبعث على النشاط[8]، بخلاف ما إذا جاء الكلام على وتيرة واحدة، فإن القارئ أو المستمع قد يغفل أو يمل.
وهناك غرض خاص في كل التفات بكل موضع بحسبه، وقد يكون هذا الغرض ظاهرًا كما في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس: 1، 2]، ثم قال: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 3]، فقوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ التفات للخطاب بعد الغيبة في قوله: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾.
والغرض من مجيء الكلام أولًا بضمير الغيبة كراهيةُ مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم يقل: "عبست وتوليت أن جاءك الأعمى"، بينما خاطبه مواجهة بقوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾؛ إذ لا غضاضة ولا محذور في مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].
واختلف في الغرض الخاص من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بعد الآيات الثلاث قبلها.
فقد قيل: إنه لما أثنى على الله، فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[9].
وقيل: لما ذكر الحقيقَ بالحمد والثناء وصفاته العِظام، تعلَّق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء والعبادة والاستعانة، فخوطب ذلك المعلومُ المتميِّز بتلك الصفات، فقيل: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ أي: ﴿ إِيَّاكَ ﴾ يا من هذه صفاتُه نخص بالعبادة والاستعانة[10]، والله أعلم.
تعليق