• تم تحويل المنتديات للتصفح فقط

إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غُرْبَةُ العربية من غربةِ العِلْم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غُرْبَةُ العربية من غربةِ العِلْم

    لا يُخالِفُ عاقلٌ في فضلِ العلم وجليلِ مَحلِّه ، فهو على رأسِ الفَضائلِ ، وأحقُّها بالتَّقديمِ، وأسبقُها في استيجابِ التَّعظيم ، وهو السّبيلُ إلى خيرِ المنازلِ ، والدَّليلُ على كلِّ الفضائلِ، وذروةُ المناقبِ وسنامُها ، ولولاه لَما بانَ الإنسانُ من سائرِ الكائناتِ إلاّ بالصّورةِ والهيئة .

    هذا ، ولقد أصبحَ في زَمانِنا مهْجورًا مَزْهودًا فيه ، حيثُ أصغَرَ النّاسُ أمرَه وتَهاونوا فيه ، فأصبحَ يُعاني غُرْبةً وقلَّةً ، نبَّه عليها رسولُ الله صلّى الله عليه و سلّم، حين قالَ في الحديثِ الذي رواه إسماعيلُ بنُ أَبي أُوَيْس عن مالكٍ عن هِشامِ بنِ عُروةَ عن أبيه عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاص :
    « إنَّ الله لا يَقْبْضُ العِلْمَ انْتْزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ ، ولكِن يَقْبِضُ العِلْمَ بْقَبْضِ العُلَماءِ ، حَتّى إِذا لَمْ يُبْقِ عالِمًا اتَّخذَ النّاسُ رُؤوسًا جُهّالاً ، فسُئِلوا فَأَفْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ فضَلّوا وأضَلّوا » [صحيح البخاري: 1/50].

    فأكثرُ النّاس في هذا الزّمانِ ناكبون عن سبيلِ العلمِ ، متطيِّرون من اسمِه، متضايقون من أهلِه، والنّاشئُ منهم راغبٌ عن التّعليمِ ، والشّادي تاركٌ للازديادِ منه، والعُلَماءُ غُرَباءُ في ديارِهم، مغمورون بين ذويهم و عِتْرَتِهم ، وسوقُ الجهلِ و الدّنيا في تنامٍ وازديادٍ ، وسوقُ العلمِ قد أصابَها الكسادُ ، لقلّة عنايةِ أهلِه بحفظِه ، والبواعثُ إليه قلّت ، والحوادثُ الصّارِفاتُ عنه عظُمت وجلَّت.

    هذا، وإنّ النّكبَةَ التي حلّت في زمانِنا بالعلمِ هي «تَناقُصُ أطرافِه و فُشُوُّ أَدَواتِه»: ذلك أن المدَنيّةَ المعاصرةَ كلّما تقدّمت ازدادت اكتشافًا للوسائلِ والأدواتِ التّقنيّةِ المتطوِّرةِ التي صُنِعت لنشرِ العلومِ وإذاعةِ المعارِفِ، وسهّلت على الإنسانِ سبُلَ الحياةِ، ويسّرت له اليومَ ما كانَ بالأمسِ عسيرًا . فقد شهدَ هذا العصرُ دفقةً واسعةً في وسائلِ اللّقانةِ [أفضّلُ استعمالَ "اللِّقانةِ" بدلاً من "البيداغوجيا" ، وهو اصطلاحٌ من اقتِراحِ الأستاذِ اللّغويِّ الكبيرِ: أحمد الأخضر غزال ، انطر في هذا الشّأن حوارًا أجرته معه مجلّةُ "الموقف" المغربيّة تحت عنوانِ "أحمد الأخضر غزال وتجربة المغرب الخاصّة في التّعريب". "الموقف" ع:3 ، محرم1408-شتنبر1987] والتّعليم ، لم تترُكْ صغيرةً ولا كبيرةً في ميادينِ البرامجِ والمناهجِ وطُرُقِ التّبليغِ والتّبسيطِ إلاّ ارْتادَتْها؛ فقد تنوّعت هذه الوسائلُ تنوُّعًا لافتًا، حيثُ ضمّت الكتبَ والمجلاّتِ والحواسيبَ والمُلْصقاتِ والإعلاناتِ والألعابَ الهادفةَ والمنبِّهاتِ المثيرةَ للحواسِّ ، ووضَعَت الرّوائزَ وامتحنت المتعلِّمَ وحَمَلَتْه على سرعةِ الاهتِداءِ وحسنِ الجوابِ.

    أجَل ، ما عَرَفَ العالَمُ مرحلَةً كثُرت فيها الوسائلُ لنقلِ المعلوماتِ والمَعارِفِ ، كالمَرحلَةِ التي هو فيها ، الصُّحفُ أكثرُ من الهمِّ على القلبِ ، والكُتبُ بجميعِ أصنافِها تقفِزُ من العَدَمِ إلى الوجودِ قفزَ الجَنادبِ ، ومَحَطّاتُ الإذاعةِ والإرسالِ لا تفترُ عن بثِّ الأخبارِ صغيرِها وكبيرِها ، وبثِّ المعارِفِ والعلومِ دِقِّها وجِلِّها

    ولو تأمَّلْتَ قيمةَ المعارِفِ والعُلومِ التي تتلقّاها الأجيالُ النّاشئةُ اليومَ ، لوجدْتَ أنّها معارفُ ضعيفةٌ مُعَرَّضَةٌ للنّسيانِ والضَّياعِ ، مطبوعةٌ بالعجَلَةِ و السّطحيّةِ ، مَشروطةٌ بالمُنبِّهات التي إذا توافرَت حضرت تلك المعلوماتُ والمعارِفُ وإذا غابت غابت، وإذا قُدِّرَ لك أن تُحاورَ شبابَ اليومِ ، لوجدتَ كثيرًا منهم – في الأغلبِ الأعمِّ – مفتقِرينَ إلى أدبيّاتِ الحوارِ وطرُقِ المناظرةِ و طولِ النَّفَس ومنهجِ الإقناع والتّسلسُل المنطقيّ ... وهي أمورٌ كانت منتشرِةً يومَ لم تكن هذه الوسائلُ الهائلةُ مُتَوافرةً ، فلمّا اندفعَ سيلُ المُخترَعاتِ والتّقنيّاتِ التّلقينيّةِ قلَّ العَطاءُ وتراجعتِ القُدُراتُ ، وتخرّجَ على مدرسةِ التّقنيّاتِ الحديثة جيلٌ مُرهَقُ الفكْرِ مُنهَك الحواسِّ ، أتعبَتْه المنبِّهاتُ و بات يلتمِسُ مطلوبَه في الألعابِ المسلِّيَة والأنشطةِ المروِّحة . ولا شكّ أنّ السّببَ في ذلك كلِّه أنّ العلومَ والمعارِفَ أُفْرِغت من مضمونِها وجُرِّدت من مكْنونِها ، فأصبحت أصنافُه ومُصَنَّفاتُه كثيرةً ونُكَته قليلة، وأنواره ساطعة وثماره عزيزة ، وأجْسامه جَمّة وأرواحه نَزْرَة، وما ذلك إلاّ لأنّ العلمَ فُصلَ عن مكارمِ الأخلاقِ، فانحسَرَ هذا الفصلُ عن السّفاسفِ والأخلاق، وأصبحَ المدرِّس مُجرَّد ملقِّنٍ للتّلميذ لا يختلفُ حالُه عن حالِ الآلاتِ المُلقِّنةِ التي تُؤمرُ فتستجيبُ، وأصبحَ التّلميذُ موكولاً إلى نفسِه وهو يتعلّمُ ويتلقّى، وفُصلت هذه المعارفُ عن التّربيةِ والتّوجيه وخُلُق الانضباطِ والاستِماعِ، وأسفَرت هذه المناهجُ المُفرَغة الجوفاءُ عن جيلٍ من المدرِّسين كانوا بالأمسِ تلاميذَ، فأثمَروا ما بُذِر فيهم، وانتَصبوا أمامَ أفواجٍ كثيرةٍ من التّلاميذِ فبثّوا فيهم ما لُقِّنوا أو ما هو دون ذلك، ولكنّهم قلّ زادهُم وضعفَت طرُقُهم، إلاّ القليل منهم، واستمرَّ هذا الخطُّ في دورانٍ مُغلَق. ولا تسأل عن آثارِ هذه المناهجِ العلمانيّةِ الفاصِلة في المجتمعِ برُمّتِه، وما تزوِّده به من ظواهرَ تربويّةٍ غريبةٍ ، تطبعُها الأنانيّةُ والسّطحيّةُ والعَجَلَة ، وتفتقِر إلى من يُسيِّرُ أمورَها و يقضي مآرِبَها و يأخذُ بيدِها ، ولكنّها أُعْطِيَت زمامَ تسييرِ الشّؤون العامّةِ ، و حُمِّلت المسؤوليّاتِ الجِسامَ ، فكانت وبالاً على البلادِ و العبادِ . ورأسُ الدّاءِ كلِّه هو « فُشُوٌّ مُريعٌ لأدواتِ العلمِ ، وتَناقُصٌ لأطرافِه » لمّا فُصل عن مرجعيّتِه العَقَديةِ و الخلُقيّة . فليس النّقصُ في وسائلِ نشرِ المعرفةِ ، ولكنّ النّقصَ في طبيعةِ المعرفةِ ذاتِها وما ينبغي أن ترميَ إليه من إعادةِ تشكيلِ الإنسانِ وفقَ أصولِه الحضاريّةِ الأولى ، ثمّ ما يفرِضه العصرُ من تحدٍّ ومواجهةٍ ، ومن حربٍ حضاريّةٍ كونيّةٍ، و"عَوْلَمَةٍ" تمتصُّ خٌصوصيّاتِ الأُمم وثقافتَها ، وتُلْقي بها في يَمِّ التّمييعِ و التّضييعِ ، فتَصْهرُ عناصر القوّةِ في كلِّ ثقافةٍ ، و تَشُلُّ قُدْرَتَها عن كلِّ تأثيرٍ وغَلَبَةٍ وتَوْجيهٍ، فتَحْرِمُها من إفادةِ الثّقافاتِ الأخرى بتجاربَ إنسانيّةٍ خاصّةٍ يُمْكِنُ أن تُنْتَقى و تصيرَ نافعةً في حياةِ الأُمم والحضاراتِ. فمن المعلومِ أنّ النّظامَ الدّوليّ الجديدَ صيغةٌ تفتقرُ إلى نظامٍ، ونظريّةٌ في التّحضُّرِ تفتقرُ إلى حضارةٍ مؤطِّرةٍ، وجَسدٌ يفتقرُ إلى روحٍ، وصيغةٌ ذاتُ نظامٍ موهومٍ ألقِيَ بِها في دُنْيا النّاسِ لابْتِلاعِ الثَّقافاتِ القوميّةِ و الْتِهامِ كلِّ الثّوابِت، وطوفانٌ جائحٌ يُهدِّدُ بإغراقِ كلَّ شيءٍ، لأنّه عُنْوانٌ على «الزّمَنِ الغربِيِّ الجديدِ» الذي وصَلَ إلى مرحلةٍ يضيقُ عندَها بالاخْتلافِ و التّنوُّع [و هذا ما حذَّرَ منه صامويل هنتنغتون في كتابِه "صدام الحضارات" و فرنسيس فوكوياما في كتابِه "نهاية التّاريخ" : انظر: [الخروج من التّيه، دراسة في سلطةِ النّصّ: 9 و 352] ، سلسلة : عالَم المعرفة، ع:298، رمضان1424/نوفمبر2003، إصدار: المجلس الوطني للثّقافة و الفنون والآداب-الكويت ،.]

    هذه هي العقبةُ الكأْداءُ التي ينبغي أن تقتحمَها المعرفةُ في الوقتِ الرّاهنِ، وهذا هو التّحدّي الذي تُواجهُه وهي تلتمسُ طريقَها إلى عُقولِ النّاسِ وقُلوبِهم، مُؤَزَّرَةً بإطارِها الحضاريِّ ومذهبِها العقَدي وتصوُّرِها السّليمِ الذي يربطُ العلمَ بأساسِ الأخلاقِ والإيمان


  • #2
    طرح في غايه الروعه والجمال
    سلمت اناملك على الانتقاء الاكثر من رائع

    تعليق


    • #3
      جزاك الله خير
      ]


      ]

      تعليق


      • #4
        المشاركة الأصلية بواسطة الحدود الشمالية مشاهدة المشاركة
        طرح في غايه الروعه والجمال
        سلمت اناملك على الانتقاء الاكثر من رائع

        تعليق


        • #5
          المشاركة الأصلية بواسطة بوسليم مشاهدة المشاركة
          جزاك الله خير

          تعليق


          • #6
            الله يعطيك العافية وبارك الله فيك على حسن الاختيار

            تعليق


            • #7
              مابعرف يبدو انني
              لست انا هذا المساء
              وقفت ع هذا المقال
              وقوف الكندي ع اطلاله
              وبكيت مع صاحب المقال
              ع حال اللغة العربية والعلم
              بكا غيلان اذ ابدى (بميته) هيامه
              ولكن
              الاستشهاد ب فوكوياما وتاريخه
              وهنتنقتون وصراع حضاراته
              ربما هما يتبعان هيجل وماركس
              ومعروفة افكار القوم
              وبدل البكاء ع الاطلال
              ماذا استفدنا من تكنولوجيا الغرب
              وحضارته ومدنيته المعاصرة ماذا استفدنا
              منها
              لماذا نحملها المسؤلية فيما يحدث
              ماذا صنعنا نحن ماذا قدمنا
              لم نحافظ ع ما لدينا ولم نتطور
              مثل الغرب
              لاشك ان الكاتب يعرف (الفوضى الخلاقه)
              واربابها
              شكراً لك ع اية حال

              تعليق


              • #8

                تعليق


                • #9
                  يعطيك العافية وجزاك الله خير

                  تعليق

                  يعمل...
                  X