الليلة السابعة
وكما وعدتكم ليلة البارحة .. ففي أحدى ليالي الصيف قبل حوالي سبع سنوات دُعينا لمناسبة لدى أحد الجيران ، وكان الجميع ممن نعرفهم ونلتقي معهم دائماً ، إلا شخص واحد ، حضر ومعه أبنه برفقة أحد المدعوين من جماعتنا كان زميلا له في العمل .. الشاهد أن هذا الرجل كانت تبدو على محياه علامات السعادة والراحة ويبدو من مظهره أنه أنيق في هندامه وقوامه ، وما أن اخذ مجلسه بيننا حتى بادر بالكلام الخفيف والسوالف التي في مثل هذه المجالس ، وأخذ يجس مدى تقبلنا لحديثه معتذرا للمبادرة بالحديث ، فلما رأى الجميع متقبلين له ومرحبين به وإظهار الاستأناس بحضوره .. أسترسل في ملاطفته للمجلس ثم دخل الجميع في عمق الامور التي يدار النقاش حولها في المجتمع وشرق وغرب وتواردت الشواهد من الحديث والحكم والشعر والامثال .
وكان يبدو من مظهره أنه شخص منعم يرفل في ثياب الصحة ويتنعم من خيرات الدنيا ،يعني ( بينطق من برد العافية ) وأما حديثه فلم يظهر من خلاله أي شكوى أو انزعاج من أي أمـر ، وعرفنا أنه متقاعد .
ولكــن الدهشة التي اصيب بها الجميع هي عندما أوعز لنا المضيف بالقيام لتناول العشاء ،، حيث طلب هذا الرجل من ابنه ان يحضر له شيئاَ من السيارة ، وبالفعل دخل ابنه ومعه ثلاثة اكياس صيدلانية وضعها الى جانبه ونحن على المائدة ، وقبل بداية الاكل استخرج من الكيس الاول كمية من الحبوب اشكال وألوان ثم تناولها وهو يبتسم ، فظهر على وجوهنا شيء من الوجوم تعبيراً عن المواساة له واستغرابا لعدم ظهور علامات بأس عليه، وأستمر في حديثه وملاطفته للجميع وقد خفتت مداخلاتنا معه إلا بعض المجاملات ، وفي منتصف الاكل اخرج من الكيس الثاني كمية من العلاجات وتناولها ، وكأنه يتناول حبات عنب أو ملاعق سلطة ، وعند الانتهاء من الاكل تحرك الى الخلف شيئاً قليلا ثم تناول الكيس الثالث ، وألتهم منه أكثر من سابقيه .
وبعد الفراغ من تناول تلك الوجبة عدنا الى مجلسنا ، وعاد الى سابق وضعه في الاريحية وتوزيع الابتسامات البريئة والكلام اللطيف ، وهكذا الـى أن أسـتاذن للانصراف ، مودعاً الجميع بنفس البشاشة واللباقة التي حضر بها الينا .
ولما انصرف سألنا أخينا الذي حضر معه عن سر هذا الرجل .. فقال / هذا الرجل عجيب جداً فهو يعاني الامراض الكثيرة والعلل المزمنة منذ ثلاثين عاماً او تزيد ، منها الفشل الكلوي وزراعة الكلى اكثر من مرة في داخل المملكة وخارجها ، ومنها المرض الفلاني والعلة الفلانية ، وعدد لنا حتى قلنا ليته سكت!
قلنا فما سر تقبله لما يعانيه وتعامله مع هذه الاوضاع العصيبة الاريحية .. قال لم تروا إلا القليل .. إن هذا الرجل صاحب سفريات ورحلات واجتماعات يمارس حياته طبيعيا بل وينفع الناس ويخدمهم ويقوم ببعض المهام بين جماعته ومجتمعه . واذا اشتد عليه الالم او اصيب باعياء فإنه يتحامل على نفسه ويخفي ذلك حتى لايكاد يعرف من حوله مابه ، وتبدو اموره طبيعية وحياته مستقره لا يشتكي لأحد ألم ولا يطلب من أحد مساعدة .!
.... وبما أن هذا المشهد كان قبل سبع سنوات فقد خطر لي بالأمس أن أسأل صاحبي عن هذا الرجل لأنني لم التقيه او اسمع عنه من ذلك الوقت .. قال انه مثلما هو في تلك الليلة لازال جميلاً باخلاقه حسناً باقواله وافعاله ، وقال أنه مع حظر التجول والخروج من المنزل استفاد في تنظيم مسألة الاكل من قبل أهله ، ولكنه مستاء من قعدة البيت وعدم ممارسة هواياته واعماله ...!
واخيراً فإن هذا النموذج المثالي يوجد له اشباه كُثر في المجتمع ، لم ينزوي احدهم على نفسه او يعترض على ما اصابه او يتعب من حوله خاصة الاقربين منه ، ولم يعتبر أن هذه المصاعب هي آخر المطاف أونهاية الحياة ، ولكنهم ممن يخوضون هذه المعارك الشرسة مع الحياة والغير متكافأة في كل الاحوال بل ( ويمشون الامور على كيف كيفهم ) وهذا / فضل الله يؤتيه من يشاء / ... فلله در هذا الرجل وامثاله من الناس ، ونسأل الله له الشفاء وعظيم الاجر، ولنا ولكم ولجميع المسلمين .
.........
وأعتذر عن الاطالة بعض الشيء ،،، وغدا قــد نلتقي ..
..( اوران )
تعليق